الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ولو ظاهر من امرأتين له فأعتق رقبة عن إحداهما بغير عينها لم يجز له وطء واحدةٍ منهما حتى يكفّر كفارة أخرى.ولو عيّن الكفارة عن إحداهما جاز له أن يطأها قبل أن يكفّر الكفارة عن الأخرى.ولو ظاهر من أربع نسوة فأعتق عنهنّ ثلاث رقاب، وصام شهرين، لم يجزه العتق ولا الصيام؛ لأنه إنما صام عن كل واحدة خمسة عشر يومًا، فإن كفّر عنهنّ بالإطعام جاز أن يطعم عنهنّ مائتي مسكين، وإن لم يقدر فرّق بخلاف العتق والصيام؛ لأن صيام الشهرين لا يفرق والإطعام يفرق.فصل وفيه ست مسائل:الأولى: ذكر الله عز وجل الكفارة هنا مرتبةً؛ فلا سبيل إلى الصيام إلا عند العجز عن الرقبة، وكذلك لا سبيل إلى الإطعام إلا عند عدم الاستطاعة على الصيام، فمن لم يطق الصيام وجب عليه إطعام ستين مسكينًا لكل مسكين مُدّان بمُد النبيّ صلى الله عليه وسلم.وإن أطعم مدًّا بمد هشام، وهو مدّان إلا ثلثًا، أو أطعم مدًّا ونصفًا بمدّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أجزأه.قال أبو عمر بن عبد البر: وأفضل ذلك مدّان بمدّ النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله عز وجل لم يقل في كفارة الظهار {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ} [المائدة: 89] فواجب قصد الشبع.قال ابن العربي: وقال مالك في رواية ابن القاسم وابن عبد الحكم: مُدّ بمدّ هشام وهو الشبع هاهنا؛ لأن الله تعالى أطلق الطعام ولم يذكر الوسط.وقال في رواية أشهب: مدّان بمدّ النبيّ صلى الله عليه وسلم: قيل له: ألم تكن قلت مدّ هشام؟ قال: بلى، مدّان بمدّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أحب إليّ.وكذلك قال عنه ابن القاسم أيضًا.قلت: وهي رواية ابن وهب ومطرّف عن مالك: أنه يعطي مدّين لكل مسكين بمدّ النبيّ صلى الله عليه وسلم.وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه.ومذهب الشافعيّ وغيره مدّ واحد لكل مسكين لا يلزمه أكثر من ذلك؛ لأنه يكفّر بالإطعام ولم يلزمه صرف زيادة على المدّ؛ أصله كفارة الإفطار واليمين.ودليلنا قوله تعالى: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} وإطلاق الإطعام يتناول الشّبع، وذلك لا يحصل بالعادة بمدّ واحد إلا بزيادة عليه.وكذلك قال أشهب: قلت لمالك أيختلف الشّبع عندنا وعندكم؟ قال نعم! الشّبع عندنا مدّ بمدّ النبيّ صلى الله عليه وسلم والشّبع عندكم أكثر؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم دعا لنا بالبركة دونكم، فأنتم تأكلون أكثر مما نأكل نحن.وقال أبو الحسن القابسي: إنما أخذ أهل المدينة بمدّ هشام في كفارة الظهار تغليظًا على المتظاهرين الذين شهد الله عليهم أنهم يقولون منكرًا من القول وزورًا.قال ابن العربي: وقع الكلام هاهنا في مدّ هشام كما ترون، ووِددت أن يهشم الزمان ذكره، ويمحو من الكتب رسمه؛ فإن المدينة التي نزل الوحي بها واستقر الرسول بها ووقع عندهم الظهار، وقيل لهم فيه: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} فهموه وعرفوا المراد به وأنه الشّبع، وقدره معروف عندهم متقرر لديهم، وقد ورد ذلك الشّبع في الأخبار كثيرًا، واستمرت الحال على ذلك أيام الخلفاء الراشدين المهديين حتى نفخ الشيطان في أذن هشام، فرأى أن مدّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يشبعه، ولا مثله من حواشيه ونظرائه، فسوّل له أن يتخذ مدًّا يكون فيه شبعه، فجعله رطلين وحمل الناس عليه، فإذا ابتل عاد نحو الثلاثة الأرطال؛ فغيّر السُّنة وأذهب محل البركة.قال النبيّ صلى الله عليه وسلم حين دعا ربه لأهل المدينة بأن تبقى لهم البركة في مدّهم وصاعهم، مثل ما بارك لإبراهيم بمكة، فكانت البركة تجري بدعوة النبيّ صلى الله عليه وسلم في مدّه، فسعى الشيطان في تغيير هذه السنة وإذهاب هذه البركة، فلم يستجب له في ذلك إلا هِشام، فكان من حق العلماء أن يلغوا ذكره ويمحوا رسمه إذا لم يغيروا أمره، وأما أن يحيلوا على ذكره في الأحكام، ويجعلوه تفسيرًا لما ذكر الله ورسوله بعد أن كان مفسرًا عند الصحابة الذين نزل عليهم فخطب جسيم، ولذلك كانت رواية أشهب في ذكر مدّين بمدّ النبيّ صلى الله عليه وسلم في كفارة الظهار أحبّ إلينا من الرواية بأنها بمدّ هشام.ألا ترى كيف نبّه مالك على هذا العلم بقوله لأشهب: الشبع عندنا بمدّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، والشّبع عندكم أكثر لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم دعا لنا بالبركة.وبهذا أقول، فإن العبادة إذا أُديت بالسنة، فإن كانت بالبدن كانت أسرع إلى القبول، وإن كانت بالمال كان قليلها أثقل في الميزان، وأبرك في يد الآخذ، وأطيب في شدقه، وأقل آفة في بطنه، وأكثر إقامة لصلبه.والله أعلم.الثانية: ولا يجزئ عند مالك والشافعي أن يطعم أقل من ستين مسكينًا.وقال أبو حنيفة وأصحابه: إن أطعم مسكينًا واحدًا كل يوم نصف صاع حتى يكمل العدد أجزأه.الثالثة: قال القاضي أبو بكر بن العربي: من غريب الأمر أن أبا حنيفة قال إن الحجر على الحر باطل.واحتج بقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} ولم يفرق بين الرشيد والسفيه؛ وهذا فقه ضعيف لا يناسب قدره، فإن هذه الآية عامّة، وقد كان القضاء بالحجر في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشيًا والنظر يقتضيه، ومن كان عليه حجر لصغرٍ أو لولاية وبلغ سفيهًا قد نهى عن دفع المال إليه، فكيف ينفذ فعله فيه والخاص يقضي على العام.الرابعة: وحكم الظهار عند بعض العلماء ناسخ لما كانوا عليه من كون الظهار طلاقًا؛ وقد روي معنى ذلك عن ابن عباس وأبي قِلابة وغيرهما.الخامسة: قوله تعالى: {ذَلِكَ لِتُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ} أي ذلك الذي وصفنا من التغليظ في الكفارة {لِتُؤْمِنُوا} أي لتصدقوا أن الله أمر به.وقد استدل بعض العلماء على أن هذه الكفارة إيمان بالله سبحانه وتعالى؛ لما ذكرها وأوجبها قال: {ذَلِكَ لِتُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ} أي ذلك لتكونوا مطيعين لله تعالى واقفين عند حدوده لا تتعدّوها؛ فسمى التكفير لأنه طاعة ومراعاة للحد إيمانًا، فثبت أن كل ما أشبهه فهو إيمان.فإن قيل: معنى قوله: {ذَلِكَ لِتُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ} أي لئلا تعودوا للظهار الذي هو منكر من القول وزور.قيل له: قد يجوز أن يكون هذا مقصودًا والأول مقصودًا، فيكون المعنى ذلك لئلا تعودوا للقول المنكر والزور، بل تدعونهما طاعة لله سبحانه وتعالى إذ كان قد حرمهما، ولتجتنبوا المظاهر منها إلى أن تُكفِّروا؛ إذ كان الله منع من مسيسها، وتكفّروا إذ كان الله تعالى أمر بالكفّارة وألزم إخراجها منكم؛ فتكونوا بهذا كله مؤمنين بالله ورسوله؛ لأنها حدود تحفظونها، وطاعات تؤدّونها والطاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم إيمان.وبالله التوفيق.السادسة: قوله تعالى: {وَتِلْكَ حُدُودُ الله} أي بيّن معصيته وطاعته، فمعصيته الظهار، وطاعته الكفارة.{وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي لمن لم يصدّق بأحكام الله تعالى عذاب جهنم. اهـ.
|